د.عبد الرحمن بن صالح المحمود /التاريخ :9/9/1426 هـ
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – قال : ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن ، فالرسول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسَلة)) [1]
هذا الحديث له دلالاته الكثيرة ، وأحب قبل الانتقال إلى هذا الموضوع أن أقف وقفات :
إحداها : أن ابن عباس قدم لهذا الحديث بقوله : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس " ، وهذا على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها ، مما قد يظنَّ أن جوده خاص في رمضان ونحو ذلك .
وقد ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه : ((كان النبي صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأجود الناس)) [2].
الثانية : الجود هو الكرم ، وهو في الشرع أعم من الصدقة ، ولذا عرّفه بعضهم بأنه : ( إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي ) لكن من أعظم مظاهره : بذل المال ، وإلا فالشهيد يجود بنفسه في سبيل الله تعالى ، وفاعل الخير يجود بنفسه في خدمة إخوانه ، والعالم يجود بوقته وعلمه في سبيل نشر العلم ..وكهذا .
الثالثة : تشبيه جود الرسول صلى الله عليه وسم بالريح المرسلة ، بل هو أجود بالخير منها : فيه دلالة على أمرين عظيمين :
* السرعة ؛ كالريح ، فهو سريع في بذل جوده ببذل بدون تلكؤ أو توانٍ * وصف الريح بالمرسلة إشارة إلى أنها ريح خير تهبّ بالرحمة ، وإشارة أيضاً إلى عموم النفع بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع من تهبّ عليه من البلاد .
والآن ننتقل إلى الحديث عن الموضوع فنقول : إن جود الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر الكريم ، واقتداءنا به عليه الصلاة والسلام في ذلك ، إنّما جاء ضمن دلالات خاصة يختص به هذا الشهر المبارك ، أهمها :
* جود الله وعظيم فضله على عباده في رمضان .
* مدارسة القرآن وأثرها على النفس وغناها .
* مجالسة الصالحين وأثرها في استقامة السلوك وعلو الهمّة ، ومن ذلك : أن يبذل الإنسان ما له فيما ينفعه .
* فضل الصدقة عموماً ، فكيف إذا كانت في رمضان .
ما هي أهم مظاهر الجود ؟
أولاً : جود الله وعظيم فضله على عباده في رمضان :
في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل : ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)) [3] .
فإذا كان جود الله تعالى عباده تميز هذا التميز بالنسبة للصائمين ولا شك أن رمضان أفضل الصيام ؛ لأنه فريضة ، وأحب الأعمال إلى الله ما افترضه على عباده فكيف لا يجود العباد على إخوانهم في هذا الشهر الكريم من هذا المال الذي هو أولاً هبة وعطيّة من الله تعالى ، لا كما قال الكافر قارون : (( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)) (القصص : 78) .
ثم إنه ثانيا لا شك زائل ؛ لأنه إما أن يزول عنك ، أ, تزول عنه بالموت حين يتبعك مالك مع أهلك وعملك فيرجع اثنان المال والأهل ، وتبقى حبيس عملك فقط .
فرسول الله صلى الله كان أجود ما يكون في رمضان ؛ لما يرى من جود الله تبارك وتعالى .
ثانياً: مدارسة القرآن وأثرها : في هذا الحديث : (( وكان يلقاه أي جبريل في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن)) [4] .
هذه المدارسة تجدد له العهد بمزيد عنى النفس ، وهي ليست للحفظ فقط ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحفظ القرآن، فالمدارسة لأمور كثيرة منها :
* أن رمضان شهر القرآن .
* أهمية المدارسة بخشوع وتدبر وأثر ذلك في عظم العلم والفهم لكتاب الله تعالى .
* أثر القرآن على النفس وغناها ، ومن ثم جودها .
ومظاهر أثر القرآن في النفس كثيرة جداً – لا يمكن إحصاؤها – والله يقول : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ )) (يونس : 57، 58 ) .
وأحب أن أقف وقفات قصيرة متعلقة بالاقتصاد والمال وتقويم الأشياء في القرآن :
الوقفة الأولى
علَّمنا الله في كتابه الحلال والحرام وأثرهما في الحياة فقال جل شأنه : (( يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ )) (البقرة: 276) وهذا يدلُّ على أمرين :
* أن جمع المال بطريق الربا والحرام مهما كثر هو عند الله ممحوق البركة ، وحين يمحق وتمحق بركته يتحول إلى وبال على صاحبه .
* أن الصدقات يربيها وينميها تعالى لعباده حتى تضاعف أضعافاً كثيرة
فـ ((اللقمة يربيها الله تعالى بيده حتى تصير مثل جبل أحد )) [5].
وهكذا :
* فالربا في المنهج الاقتصادي الإسلامي يساوي : لا شيء .
* والصدقة في المنهج الاقتصادي الإسلامي تساوي : مضاعفة إلا ما لا نهاية .
الوقفة الثانية
حين تقوم الموجودات التي يملكها الإنسان في الدنيا ، يأتي في المنهج القرآن بيان أن هناك شيئاً واحداً ، إذا ملكه الإنسان يتحول إلى أغنى غنيّ في العالم ، وليس أحد أغنى منه إلا من ملك مثل ما ملك .وهذا الشيء لا يقدر بثمن .
قال الله تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (المائدة: 36) .
وقال تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ )) ( آل عمران : 91) .
فهذا الشيء هو : الإيمان الصادق . فمن كان معه الإيمان كمن ملك أكثر من ملء الأرض ذهباً ، كما يدل عليه مفهوم هذه الآيات .
الوقفة الثالثة : مجالسة الصالحين
كان صلى الله عليه وسلم يجالس جبريل عليه السلام وهو يدل على عظم وأهمية الجليس خاصة بالنسبة للأغنياء.
* فالغني الذي يجالس أهل الدنيا ، لا يجد إلا المفاخرة بكثرة الأموال ، فيـتأثر بذلك ويزداد طمعاً ويصبح همه مجاراة من فوقه من الأغنياء .
* من يجالس أهل الخير ، يذكروه بالله والدار الآخرة ويدلوه إلى الطريق الصحيح والنهج السديد في هذه الأموال ، ويقربوه إلى ربه وما أعده من النعيم لعباده المحسنين .
الوقفة الرابعة : فضل الصدقة ، وكيف إذا كانت في رمضان ؟
الآيات في القرآن كثيرة جداً بينت فضل الإحسان والصدقات عموماً ، وأما من السنة :
- فعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ياعائشة استتري من النار ولو بشق تمرة ، فإنها تسدّ من الجائع مسدها من الشبعان)) [6] .
وفي رواية لمسلم : (( من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل)) .
- وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله يقول : (( كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس . قال يزيد : فكان أبو مرثد لا يخطئه يوم إلا وتصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة)) .[7]
- وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وصدقة السر تطفئ غضب الرب ، وصلة الرحم تزيد في العمر )) [8].
- هذه (سعدي) زوجة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما دخل عليها زوجها طلحة فرأت منه ثقلاً فقالت له : مالك ؟ لعلك رابك منا شيء فنعتبك أي نطلب رضاك – قال : لا ، ولنعم حليلةُ المرء المسلم أنتِ ، ولكن اجتمع عندي مال ، ولا أدري كيف أصنع به ؟ قالت : وما يغمّك منه ، ادع قومك فاقسمه بينهم ، فقال : يا غلام ! عليّ بقومي ، فسألت الخازن كم قسم ؟ قال : أربعمائة ألف )) [9].
الوقفة الخامسة : ما هي أعظم مظاهر الجود
كثير من الناس حصر جوده في رمضان فيما يسمى بعشى الوالدين وجعله في يوم الخميس فقط ، وهذا مع أنه أراد الخير ، إلا أنه قصر من عدة أمور :
* أنه حرم نفسه وتصدق عن والديه ، وفضل الله واسع فهذا مثل من يضحي عن أمواته ويترك نفسه .
* أنه خصّ ذلك في يوم معين ، فتحول إلى عادة مستمرة لسنوات ، ويخشى أن يتحول إلى بدعة .
* أنه قصر القضية في صناعة الطعام ، قد يؤكل وقد لا يؤكل ، خاصة أن بعض الناس يصنع الطعام ، ثم يبحث عمن يأكله ، ولما كان الخير يعم في هذا الشهر ، فقد يضطر إلى رميه والتخلص منه .
لهذا ، فأحب أن أذكر نفسي وإخواني بأن مظاهر الجود عديدة :
* فهناك المحتاجون من الفقراء في الداخل ، وهناك فقراء كثيرون في الخارج ، ولا شك أن الأقربين والقريبين أولى ، ولكن في الخارج من هو أشدّ حاجة .
* وهناك مشاريع الإفطار أيضاً في الداخل والخارج وهي والحمد لله كثيرة .
* وهناك جمعيات ومدارس إسلامية منتشرة : وهي تشكو بخل إخوانهم المسلمين ، في مقابل نشاط تنصيري مدعوم .
* والمجاهدون في سبيل الله في البوسنة وفي كشمير وغيرهما من بلاد الإسلام بحاجة إلى دعم وتأييد .
* وهناك مراكز تحفيظ القرآن الخيرية ، وهي كثيرة جداً .
ولعل من ذلك : الاستكثار من الطعام وقت الإفطار بحيث يمتلئ الجوف من ذلك ، فلا يستفيد من صيامه في قهر عدو الله الشيطان وكسر الشهوة.
لأن الصائم تدارك عند فطره ما فاته ضحوة نهاره ، وربما زاد على ذلك في ألوان الطعام حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان ، فيؤكل منها فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر .
ومعلوم أن مقصود الصوم كما يقول الغزالي الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على النفس ، فإذا دفعت المعدة ومنعت من أول النهار إلى آخره حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها ثم أطعمت من اللذات وأشبعت ، زادت لذتها وتضاعفت قوتها ، وانبعثت من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها .
فروح الصوم وسرّه تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور ولن يحصل ذلك إلا بالقليل . وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم .
فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلاً لم ينتبع بصومه .
ومن ذلك : أن لا يكثر النوم بالنهار حتى يحسّ بالجوع والعطش ويستشعر ضعف القوى ، فيصفو عند ذلك قلبه ، والناس في هذه الأيام خالفوا في هذين .
* نوم طويل بالنهار ، فلا يحسّون بصوم .
* وأكل كثير من ألوان الطعام في الليل فلا يستشعرون الصيام فتهيج شهواتهم وشياطينهم
[1] رواه البخاري (6) وفي غير موضع .
[2] رواه البخاري (1033) ، ومسلم (2307) .
[3] رواه البخاري (6) وفي غير موضع ، والنسائي (4/125) .
[4] سبق تخريجه .
[5] - رواه البخاري (1410) وفي غير موضع ، ومسلم (1014) .
[6] انظر : صحيح الترغيب (559) ، والحديث رواه أحمد بإسناد حسن .
[7] انظر : صحيح الترغيب (866) ، والحديث رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، وقال : صحيح على شرط مسلم .
[8] انظر : صحيح الترغيب (880) ، والحديث رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن .
[9] انظر : صحيح الترغيب (916) .
المصدر : موقع شبكة نور الإسلام http://islamlight.net/index.php?option=content&task=view&id=1966